أساليب الشيطان في الإغواء النزغ بين المسلمين.
من أساليب الشيطان في إغواء الإنسان النَّزْغ، والنَّزْغ هو الكلام الذي يُفسِد العلاقة بين الناس، فالنَّزْغ وسيلة شيطانية يستخدمها الشيطان في خطته الماكرة لإضلال الإنسان وغوايته، ولقد أخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه عن نَزْغ الشيطان وحذّرنا منه، فقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
فالشيطان يسعى إلى التَّحرِيش وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس، وشحن النفوس بالغِلّ والغضب، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه: استبّ رجلان قرب النبي ، فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فقال الرجل: أمجنون تراني؟! فتلا رسول الله : وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]. رواه مسلم.
وهذا يفسر لنا ـ أيها الإخوة ـ ما نرى من قَطِيعة وبُغض وغِلّ بين المسلمين بسبب ما ذكرنا من نَزْغ الشيطان بينهم، فالشيطان يجتهد جاهدًا لقطع الروابط بين المسلمين، فربما فلَتَت الكلمة بين اثنين، فينْزَغ الشيطان إلى الآخر فيجعله يحملها على غير محملها، فيأتي الرد السيئ ليشعل نار الشحناء والبغضاء بينهما، فإذا المودّة والمحبة انقلبت جفوة وعداوة. عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الشيطان قد أَيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحرِيش بينهم)) رواه مسلم.
فكم أوقع الشيطان من عداوة بين المسلمين، وخاصة حين تكون العلاقة بين الناس فيما يرضي الله تعالى كعلاقة الأرحام والأقارب مع بعضهم البعض، أو كعلاقة الإخوة في الله، وقصة يوسف مع إخوته خير دليل على ذلك، قال الله عزّ وجلّ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].
والشيطان ينزغ الإنسان من عدة جهات، فأحيانًا ينزغه من جهة لسانه ليتلفّظ بألفاظ فاحشة بذيئة أو كفرية أو شركية والعياذ بالله، وربما انتقل نزغ اللسان إلى اليد، فيقع الشر والخصومة والعداء، ولهذا الغرض نهى النبي أن يشير المسلم إلى أخيه بالسلاح، فربما نزغ الشيطان إليه فقتل أخاه بسلاحه فيقع في النار، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار)) رواه البخاري.
أيها السلمون، من أساليب الشيطان في المكر ببني آدم الاستهواء، والاستهواء هو أن يُزيّن الشيطان للإنسان هواه، فيفسد هواه وعقله وقلبه. ولقد أخبرنا الله تعالى بهذه المكيدة الشيطانية الخفيّة، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
ولقد استهوى الشيطان وزيّن الباطل لكثير من الناس، فكم حَسّنَ من قبيح وزيّن من فاحش وجَمَّل من رذيلة ومَلَّحَ من ذميم وأعمى عيونًا لترى الفواحش والمنكرات والمحرمات في قالب مزخرف وصورة حسنة، وهي تخفي في حقيقتها السمّ والداء الدَفِين، فهو يظهر الباطل في صورة الحق مع تزيينه بالشهوات؛ كي تندفع إليه النفوس المريضة، لتقع فريسة للشيطان الذي يتربص بها الشر ويقودها إلى هلاكها وخسرانها.
والشيطان حين يُزيّن الباطل للإنسان فإنه بالمقابل يظهر الحق في صورة قبيحة ومُسْتَهْجَنَة؛ لينفّر النفوس عن الحق، فلا تتبعه وتدعو إليه، فالشيطان هو الذي أوحى إلى أوليائه تسمية المرأة المحتشمة بحجابها الشرعي رَجْعِيّة ومُتَخَلِّفة، وهو الذي تلاعب بكثير من القنوات الفضائية حتى جعلهم يدعون إلى الباطل وينفرون من الخير، وهو الذي جعل البعض يكره الدين وأهله، وهو الذي جعل المعروف منكرًا والمنكر معروفًا عند بعض الناس، وهو الذي جعل الناس يسمون أم الكبائر الخمر بالمشروبات الروحية، وهو الذي زيّن أفلام الرذيلة الواقعية كإستار أكاديمي وغيرها، فسَوّل للبعض أنها فن وجرأة وبراءة وشُهرة، وهو الذي زين للبعض أكل أموال الناس بالباطل باسم الذكاء والفِطْنة، وهو الذي جعل البعض يُسمّي الربا الحرام فوائد بنكية، وهو الذي زيّن للبعض معاكسة بنات المسلمين وهتك أعراضهن وفضح أهلهن باسم التسلية، وهو الذي هوّن من عِظَم ذنب رؤية صور النساء عبر الجوّال أو الشاشة أو الحاسب الآلي حتى صار الكثير لا يعدّونه ذنبًا.
أيها الإخوة، من أساليب الشيطان في إضلال الإنسان أسلوب التدرج بالخطوات، ولذلك حذّرنا الله تعالى من اتخاذ خطوات الشيطان والاسترسال معها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ[النور:21]، وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين [الأنعام:142].
فالشيطان حين يدعو الإنسان للمعصية فإنه لا يدعوه إليها مباشرة، بل يقرّبه منها خطوة خطوة، وشيئًا فشيئًا، حتى يقع في الفخّ الذي نصبه له، فهو يدعوه أوّلاً إلى المعصية، ويزيّنها في نفسه، ويدخل على النفس من الباب الذي تحبّه وتميل إليه، فهو يجري من الإنسان مجرى الدم، ثم يحبّب النظر إلى المعصية فتحسن في عينه، ثم يدعوه إلى الاقتراب منها ثم ارتكابها، وهو في ذلك يوسوس له بأن هذه المعصية من اليسير فعلها، وليس هناك ما يدعو إلى التردّد، حتى يزيل هيبة المعصية من قلبه، ثم يؤمّنه من عاقبة فعلها، بأنه لن يطلع عليه أحد، وأنه فِعْل ينتهي في وقته، وليس له مُطالِب، ويوحي بأن هذه فرصة نادرة فعليه اغتنامها والتلذّذ بها، وربما لن تحصل له مرة أخرى، وهكذا يقود الشيطان هذا الإنسان المسكين إلى المعاصي عن طريق تلك الخطوات الشيطانية المتتابعة، حتى يملأ قلبه وفكره ومشاعره وهمّه في الرغبة المُلحّة في فعلها، ونقله من معصية إلى أخرى أكبر منها، ولا يدعه الشيطان إلا وهو غارق في أوحال وأقذار المعاصي والآثام، فيبتهج عند ذلك الشيطان ويفرح أشدّ الفرح؛ لأنه كسب إنسانًا يكون رفيقًا له في نار جهنم، إن لم يتداركه الله برحمته فيتوب من ذنوبه.
من وسائل الشيطان مع المسلم أن ينسيه ذكر الله، فهو يلهي المسلم عن طاعة ربه، وأول ما ينسيه ذكر الله، قال الحق جلّ وعلا: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ[المجادلة:19]. ويعتبر نسيان العبد لربه من أكبر الذنوب وأخطرها في الدنيا والآخرة، ولذلك نهى الله عباده عن الغفلة وحذّرهم من عاقبتها، فقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[الحشر:19].
أيها الإخوة، من الأمور التي نغفل عنها ولا تخطر ببالنا أن الشيطان يُنسِي الإنسان حتى مصالحه ومنافعه الدنيوية، فقد أخبرنا الله عن ذلك في قصة صاحب موسى عليه السلام حين أنساه الشيطان الحوت، فطال الطريق عليهما، واستمرّا في المشي بالسفينة حتى اليوم التالي، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]. ففي الآية دليل واضح على أن النسيان من الشيطان، فالشيطان يشغل الإنسان بوساوسه حتى يشغل فكره فيعتريه النسيان، وقد حكى الله لنا أيضًا قصة يوسف عليه السلام، فقد لبث في السجن بضع سنين بسبب إنساء الشيطان للرجل الذي خرج من السجن، وأوصاه يوسف عليه السلام أن يذكره عند ملكه، قال تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، فقد أنساه الشيطان مدة طويلة من ثلاث إلى تسع سنوات من أن يتذكر يوسف عليه السلام في السجن.
أيها الإخوة، من أساليب الشيطان وخططه في التلاعب بالإنسان وعده ووعيده، فهو يعد الإنسان في الدنيا بوعود كاذبة، فقد وعد المشركين في معركة بدر بأنهم سينتصرون على المسلمين، وأنهم أقوى منهم وأكثر عددًا، وأنه ناصر لهم، حيث أتاهم في صورة رجل هو سُرَاقَة بن مالك، ومن المعلوم أن الشياطين لهم قدرة على التشكّل بباقي المخلوقات، وهذا معروف، وعندما بدأت المعركة وحين رأى الشيطان ملائكة الله فرّ وخذل المشركين، والله تعالى يُبيّن لنا ما جرى في كتابه العزيز فيقول تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].
إن من وعد الشيطان للإنسان أن يُورِدَه الموارد التي يُخيّل إليه أن فيها مصلحته، ثم يفاجأ أن فيها هلاكه، ويتخلى الشيطان عنه، ويشمت به، ويضحك منه، فيأمره مثلاً بالسرقة والزنا والقتل، ثم يدل أصحاب الحق عليه، ويفضحه عندهم، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
ولقد بيّن لنا ربنا تعالى في كتابه هذا الأسلوب الماكر من الشيطان لإيقاع الناس في الخطايا بما يعدهم من مواعيد كاذبة عاقبتها الخسران والندامة، قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا[النساء:120]، وقال رسول الله : ((إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم وللمَلَك لَمَّةً، فأما لَمَّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمَّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فيحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة 268]. رواه الترمذي وغيره وابن حبان وصححه.
أيها الإخوة، أوصيكم ونفسي بالحذر من الشيطان الذي يحتال على الإنسان بوعده ووعيده، فيوسوس للإنسان أنه لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، وبذلك يستخفّ الإنسان بأن يقول له: لا مضرّة البتّة في فعل المعاصي، وينفّره عن الطاعة بأن هذه العبادات لا فائدة فيها، وأنها متعبة، فيستجيب لوعده ووعيده النفوس الضعيفة التي تنساق مع أباطيله، وأما من آمن بموعود الله فإن نفوسهم أسمى وأرفع من أن تستجيب للشيطان وأكاذيبه؛ لعلمهم الصادق أن هذا العدو لا يصدقهم النصيحة، ولا يوفيهم العهد والوعد، كما فعلها من قبل مع أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، وهذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فإن إبليس سيقف خطيبًا في يوم القيامة يكشف زيف وعوده وبطلانها، ويعلن براءته من أتباعه، وبراءته من كل من استجاب لغوايته ووعوده؛ ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم، وغمَّا إلى غمّهم، وحسرة إلى حسرتهم، وفي ذلك اليوم الحق سيعلن الشيطان الحقيقة التي طالما كان يخفيها في الدنيا، ويدعو إلى خلافها، وهي صِدْق الله ورسوله ، فماذا يقول؟ قد أخبرنا الله علاّم الغيوب بما سيحدث مستقبلاً للشيطان وأتباعه في يوم القيامة: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
اللهم اعصمنا من الشيطان الرجيم...