طرق الشيطان في إضلال الإنسان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أل إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
فإن عدواة الشيطان للإنسان مستحكمة ، والحرب بينهما ظاهرة واضحة ، وهدف الشيطان أن يغوى بنى ءادم جميعاً حتى يكونوا معه في جهنم ، كي لا يكون وحده هناك ، ولذلك كان من الواجب على كل مسلم أن يعرف أساليب الشيطان ليحذرها ، ومداخله ليتجنبها وطرقه ليبتعد عنها
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينصرنا على الشيطان ، وألا يجعل له علينا سلطاناً ولا إلى قلوبنا سبيلاً ، كما أسأله سبحانه أن يحفظنا بحفظه ، ويكلانا برعايته ويوفقنا لكشف مخططات الشيطان ،وأن يجنبنا الوقوع فيها إنه على كل شئ قدير وبالإجابة جدير .
1- تزيين الباطل .
2- تسمية المعاصي بأسماء محببة.
3- تسمية الطاعات بأسماء منفرة.
4- دخوله إلى النفس من أحب الأبواب إليها.
5- التدرج في الإضلال .
6- الصد عن الحق .
7- إظهار النصح للإنسان .
8- الاستعانة بشياطين الإنس .
وإليك بيانها بالتفصيل.
1- تزيين الباطل
إن الباطل له صورة قبيحة وسيم وقحة ولذلك يعمد الشيطان إلي هذا الباطل فيغطيه بغطاء جميل ويلبسه رداء حسناً ثم يزينه ويحسنه ثم يبدأ في إغواء العبد به وما علمنا ذلك إلا من قول الشيطان نفسه حين قال لربه : {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين } .(1) فالتزيين أولا ثم الإغواء .
قال ابن القيم رحمه الله تعالي :
(( ومن مكايده أنه يسحر العقل دائما حتى يكيده ‘ ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله ، فيزين له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء وينفره من الفعل الذي هو من انفع الأشياء ، حتى يخيل له انه يضره .
(1) سورة الحجر الآية 39
فلا إله إلا الله فكم فتن بهذا السحر إنسان ! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان ! وكم جلي الباطل وأبرزه في صورة مستحسنة ! وكم شنع الحق وأخرجه في صورة مستهجنة ! وكم بهرج من الزيوف على الناقدين ، وكم روج من الزغل على العارفين ، فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أربابها في الأهواء المختلفة ، والآراء المتشبعة وسلك بهم سبل الضلال كل مسلك ، وألقاهم من المهالك في مهلك بعد مهلك .
وزين لهم عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام ووأد البنات ، ونكاح الأمهات ووعدهم بالفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان وأبرز لهم الشرك في صورة التعظيم ، والكفر بصفات الرب تعالى وعلوه وتكلمه بكتبه فى قالب التنزيه ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس ، وحسن الخلق معهم والعمل بقوله :{ عليكم أنفسكم }(1).والإعراض عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام في قالب التقليد ، والاكتفاء بقول من هو اعلم منه ، والنفاق والادهان في دين الله في قالب العقل المعيش الذي يندرج به العبد بين الناس )) (2) أ هـ ..
(1) سورة المائدة الآية 105
(2) إغاثة اللهفان 1/110
2-تسمية المعاصي بأسماء محببة
ومن صور هذا التزين تسمية الفواحش والمعاصي بأسماء محببة إلى النفوس لكي يخفى خبثها وفحشها فهو الذي سمي الشجرة بشجرة الخلد { هل أدلك علي شجرة الخلد وملك لا يبلي } (1).
يقول ابن القيم رحمه الله تعالي( ( وقد ورث أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحب النفوس مسمياتها ، فسموا الخمر بأم الأفراح ........))(2)
فهم الذين يسمون الربا بالفائدة ، ويسمون التبرج الفاضح بحرية المرأة ، ويسمون الاختلاط المستهتر بالتقدم والتمدن ، ويسمون المغنية الفاسقة الفاجرة بالفنانة . ويسمون الممثلة الخليعة بالبطلة ، ويجمعون كل هذا الفسوق والفجور والعصيان تحت اسم الفن ، كل هذا ليجذبوا قلوب الناس إلي فحشهم وخبثهم .
(1) سورة طه الآية 120
(2) إغاثة اللهفان 1/112
3- تسمية الطاعات بأسماء منفرة
إن الحق تكون عليه مسحة من نور وتعلوه إشراقة وضاءة فلو ظل كما هو دون تشويه أو تقبيح لتهافتت إليه النفوس ، وأصغت إليه الأسماع وركنت إليه القلوب ولذا كان دور الشيطان الأول هو تقبيح صورة الحق وتشويهها وتسميته بأسماء منفرة ، فهو الذي أوحي إلى أوليائه من كفار مدين أن يقولوا للناس : { لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذا لخاسرون } .(1)
وهو الذي أوحي إلى أوليائه من كفار قوم فرعون بتسمية موسى وهارون ساحرين { قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلي } (2).
وهو الذي أوحي إلى أوليائه من الكفار من قوم عاد أن يقولوا لنبيهم هود عليه السلام :{ إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين }(3).
وهو الذي أوحي إلي أوليائه من كفار قريش بتسميه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالساحر والكاهن والشاعر والمسحور والمجنون وغيرها من الأسماء المنفرة : { وقال الظالمون عن تتبعون إلا رجلا مسحوراً} (4).
ولكن الله تبارك وتعالي نفي كل ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زور وبهتان فقال سبحانه : {فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون} (5)0
وقال:{ ما هو بقول شاعر قليلاً ما يؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين }(6). وهو الذي أوحي إلي أوليائه من كفار قريش بتسمية أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بالصائبين ..
ومازال الشيطان يسير في نفس الخطة وبتلك الوسائل حتى زماننا هذا . فهو الذي أوحي إلي أوليائه بتسمية المتمسكين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتسنين بسنته بالمتطرفين والمتعصبين .
كما يسمون البعد عن المعاصي ودور الفسق والفجور انغلاقاً ويسمون الحجاب الشرعي خيمة ، ويسمون المرأة التي التزمت بأمر ربها وجلست في بيتها رجعية متخلفة ، وكل ذلك من وحي الشيطان إليهم.
ولكن أنادى أهل الحق : لا تجعلوا هذا يثنى من عزمكم فتتراجعوا عن سنة نبيكم ، بل ازدادوا تمسكا وقولوا :
لا تلمزونا يا خفافيش الدجى
بتطرف وتسرع وتشدد
لا تقذفونا بالشذوذ فإننا
سرنا على نهج الخليل محمد
ولكل قول نستدل بآية
أو بالحديث المستقيم المسند
والنسخ نعرف والعموم وإننا
متفطنون لمطلق ومقيد
ونصوص وحي الله نتقن فهمها
لاتحسبون الفهم كالرأي الردى
وإذا تعارضت النصوص فإننا
بأصول سادتنا الأئمة نهتدي
(1) سورة الأعراف الآية 90
(2) سورة طه الآية 63
(3) سورة الأعراف الآية 66
(4) سورة الفرقان الآية 8
(5) سورة لطور الآية 29
(6) سورة الحاقة الآية 43:41
4- دخوله إلى النفس من أحب الأبواب إليها
إن عدو الله لا يدخل على النفس إلا من باب الذي تحبه وتهواه لأنه بذلك يحقق مرادها وهواها فيجد الشيطان من النفس عونا ومن الهدى مدداً.
يقول ابن القيم : (( وهذا من باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن ءادم فإنه يجري منه مجرى الدم حتى يصادف نفسه ويخالطه، ويسألها عما تحبه وتؤثره ، فإذا عرفه استعان بها على العبد ودخل عليه من هذا الباب ...
وكذلك علم إخوانه وأولياءه من الإنس إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من بعضهم بعضا أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه فإنه باب لا يخذل عن حاجته من دخل منه ، ومن رام الدخول من غيره فالباب مسدود وهو طريق مقصده مصدود ..(1) إهــ
إغاثة اللهفان 1/112
5- التدرج في الإضلال
إن الشيطان لايأتى الإنسان ويقول له : افعل هذه المعصية أو أرتكب هذه الفاحشة .وإنما يقربه منها خطوة خطوة .
وقديماً قالوا ( نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء )) وهنا يقع المحظور ، فلذلك حظرنا الله تبارك وتعالي من اتباع خطوات الشيطان فقال : { يا أيها الذين ءامنوا لاتتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر }(1)
(1) سورة النور الآية 21
فهذا نداء شفقة ورحمة من الرؤوف الرحيم إلى عباده محذرا لهم من اتباع طرق الشيطان ومسالكه ومنبها على انه يجب على العبد أن يغلق باب الطريق من أوله كي لا يندرج معه في الغواية والضلال .
ومن فهم مقاصد الشريعة تبين له ذلك بوضوح فما قاعدة (سد الذرائع ) إلا من هذا القبيل ، وكذا تحريم الخلوة بالأجنبية وغض البصر فكن متيقظا أخي المسلم لخطط الشيطان وحبائله ..
ويروى عن وهب بن منبه قال :
كان عابدا في بنى إسرائيل وكان أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاثة أخوة لهم أخت وكانت بكراً ليس لهم أخت غيرها فخرج البعث على ثلاثتهم فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ولا من يأمنون عليها ، ولا عند من يضعونها .
قال : فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بنى إسرائيل وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم فأبي ذلك وتعوذ بالله عز وجل منهم ومن أختهم .
قال : فلم يزالوا به حتى أطاعهم فقال : أنزلوها في بيت حيال صومعتي .
قال : فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة ثم يغلق بابه ويصعد إلى صومعته ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من طعام .
قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل به يرغبه في الخير ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها ، فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك .
قال : فلم يزل به حتى مشي إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها ولم يكلمها .
قال : فلبث على هذه الحالة زماناً.
ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر وحضه عليه .
قال : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك .
قال : فلم يزل به حتى مشي إليها بالطعام ثم وضعه في بيتها ، فلبث على ذلك زمانا .0
ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه .
فقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك فإنها قد استوحشت وحشة شديدة .
قال: فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطلع إليها من فوق صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال : لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد هي على باب بيتها فتحدثك كان آنس لها .
فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها فلبثا زمانا يتحدثان .
ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها . وقال :
لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريباً من باب بيتها فحدثتها كان آنس لها فلم يزل به حتى فعل .
قال : فلبث ذلك زماناً .
ثم جاءه إبليس عليه لعنة الله فرغبة في الخير وفيما له عند الله سبحانه وتعالي من حسن الثواب فيما يصنع بها وقال له :
لو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ففعل ، فكان ينزل من صومعته فيقف على باب بيتها فيحدثها . فلبث على ذلك حيناً .
ثم جاءه إبليس فقال : لو دخلت البيت معها فتحدثها . ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك ، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها نهارها كله فإذا مضى النهار صعد إلي صومعته . ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها .
فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها فولدت له غلاماً. فجاءه إبليس فقال: أرأيت إن جاء أخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع ؟ لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك ، فاعمد إلي ابنها فاذبحه وادفنه فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة اخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ففعل فقال : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ؟؟
قال : خذها واذبحها وادفنها مع ابنها . فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوى عليهما وصعد إلي صومعته يتعبد فيها .
فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث حتى أقبل إخوتها من الغزو فسألوا عنها فنعاها لهم وترحم عليها وبكاها وقال : كانت خير امرأة وهذا قبرها فانظروا إليه . فأتى اخوتها القبر فبكوا أختهم وترحموا عليها فأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم . فلما جن عليهم الليل وأخدوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر فبدأ بأكبرهم فسأله عن أخته فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها وكيف أراهم موضع قبرها فكذبه الشيطان . وقال : لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت له غلاماً فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم وألقاهم في حفيرة احتفرها خلف باب البيت التي كانت فيه عن يمين من دخله فانطلقوا فادخلوا البيت فإنكم ستجدونهما كما أخبرتكم هناك جميعاً . وأتى الأوسط في منامه فقال له مثل ذلك . وأتي أصغرهم فقال له مثل ذلك . فلما استيقظوا القوم أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم .
فأقبل بعضهم على بعض يقول كل واحد منهم : لقد رأيت الليلة عجباً فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى .
فقال كبيرهم : هذا حلم ليس بشيء فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم .
فقال أصغرهم : والله لاأمضى حتى آتى إلي هذا المكان فأنظر فيه .
فانطلقوا جميعاً حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم ، فسألوا عنها العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما .
فاستعدوا عليه ملكهم فأنزل من صومعته وقدم ليصلب . فلما أوثقوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له : قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها فإن أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصورك خلصتك مما أنت فيه : قال: فكفر العابد بالله .
فلما كفر بالله تعالي خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه (1) .
قال المفسرون : في هذا وأمثاله نزلت {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين }(2) .
(1) تلبيس إبليس 26
(2) سورة الحشر الآيتان 17:16
هكذا خطط له الشيطان ودبر ، حتى نال منه ما يريد وما وقع هذا العابد فيما وقع فيه إلا من جهله بمداخل الشيطان وخطواته فلو أنه امتنع عليه من أول خطوة لرده خاسئاً .
روى ابن الجوزى بسنده إلى وهب بن منبه قال : كان راهب في صومعته في زمن المسيح عليه السلام ، فأراده إبليس فلم يقدر عليه . فأتاه بكل رائدة فلم يقدر عليه ، فأتاه متشبهاً بالمسيح ، فناداه : أيها الراهب . أشرف على أكلمك قل : انطلق لشانك فلست أرد مامضي من عمري . فقال أشرف على فأنا المسيح ، فقال : إن كنت المسيح فمالي إليك حاجة ، ألست قد أمرتنا بالعبادة ووعدتنا القيامة ، انطلق لشأنك فلا حاجة لي منك فانطلق اللعين وتركه (1).
الأول : أضله الشيطان بسبب جهله
والثاني : عصم من الشيطان بسبب علمه ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (( فضل العالم على العابد كفضلى على أدني رجل من أصحابي )) . (2)
(1) تلبيس إبليس /29
(2) رواه الترمذى من حديث أبى أمامة وقال : حسن صحيح .
6- الصد عن الحق
أخذ الشيطان على نفسه عهداً ليضلن بنى ءادم وليغوينهم أجمعين إلا من اعتصم منهم بالله تعالي وتحصن بحصن الإخلاص ، فذلك لاسبيل للشيطان عليه قال تعالي :{قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم .ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولاتجد أكثرهم شاكرين } (1)
وقال القرطبي رحمه الله تعالي في قوله {لأقعدن لهم صراطك المستقيم } : أي بالصد عنه وتزيين الباطل حتى يهلكوا كما هلك .قال : والصراط المستقيم هو الطريق الموصل إلى الجنة ا هـ (2)
(1) سورة الأعراف الآيتان 17:16
(2) تفسير القرطبي 7/175
قال الحكم بن عتيبة {من بين أيديهم } : من دنياهم ،{ ومن خلفهم } : من أخرتهم : {وعن أيمانهم } يعني حسناتهم { وعن شمائلهم } يعني سيئاتهم .
قال ابن القيم رحمه الله : السبل التي يسلكها الإنسان أربعة لاغير فإنه تارة يأخذ عن جهة يمينه وتارة عن شماله ، وتارة أمامه ، وتارة يرجع خلفه ، فأي سبيل سلكها في هذه وجد الشيطان عليها رصدا له فإن سلكها في هذه وجد الشيطان عليها رصداً له فإن سلكها في طاعة وجده عليها يثبطه عنها ويقطعه أو يعوقه ويبطئه ، وإن سلكها لمعصية وجده عليها حاملا له وخادماً ومعيناً وممنياً ، ولو اتفق له الهبوط إلي أسفل لأتاه هناك اهـ (1) .
روى الإمام أحمد والنسائي من حديث سبرة بن أبى الفاكه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (0 عن الشيطان قعد لابن ءادم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه وأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس فى الطول فعصاه فهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال : تجاهد وهو جهد – أي تلف – النفس والمال فتقاتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد ، فمن فعل ذلك – كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، وغن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة )) (2) .
قال النحال : وهذا قول حسن وشرحه : أن معنى { ثم لأتينهم من بين أيديهم } من دنياهم حتى يذبوا بما فيها من الآيات وأخبار الأمم السالفة { ومن خلفهم } : من آخرتهم حتى يكذبوا بها { وعن أيمانهم } ومن حسناتهم وأمور دينهم ويدل على هذا قوله { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } { وعن شمائلهم } يعنى سيئاتهم ، أي يتبعون الشهوات لأنه يزينها لهم { ولا تجد أكثرهم شاكرين } أي موحدين طائعين مظهرين الشكر . اهـ (3) .
وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم . قال قتادة : أتاك الشيطان يا ابن ءادم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله (4) .
قال شقيق : (( ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، فيقول: لاتخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ {وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحاً ثم اهتدى }. وأما من خلفي فيخوفني الضيعة علي من أخلفه فأقرأ : {وما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها }. وعن يميني يأتيني من قبل النساء فأقرأ: { والعاقبة للمتقين } . ومن قبل شمالي يأتيني من قبل الشهوات فأقرأ : {وحيل بينهم وبين ما يشتهون }.(5).
(1) إغاثة اللهفان 1/140
(2) رواه النسائي (5/21) قال الحفظ العراقي في تخريج الإحياء (1389) : إسناده صحيح
(3) تفسير القرطبي (7/176) .
(4) إغاثة اللهفان (1/103) .
(5) إغاثة اللهفان 1/140 .
7- إظهار النصح للإنسان
إن الشيطان لا يأتي الإنسان ويقول له : افعل كذا من المعاصي لكي تنال العذاب الأليم ، وإنما يأتيه في صورة الناصح الأمين ، وبهذه الحيلة تمكن من إغواء أبوينا وإخراجهما من الجنة { وقاسمهما إني لكما من الناصحين } (1).. ولذلك حذرنا الله من هذه الفتنة وتلك الحيلة قائلاً {يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } (2) ..
كما روى عن بعض السلف أنه قال : إذا جاءك الشيطان في الصلاة فقال : إنك ترائي فزدها طولاٍ فلا نجاة إلا بمخالفة الشيطان ولو أظهر النصح للإنسان ..
(1) سورة الأعراف الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 27.
8- الاستعانة بشياطين الإنس
إن من الناس من تخالط بشاشة الإسلام قلبه فيقوي إيمانه ويعلو يقينه ويخالط الإسلام لحمه ودمه فلايسير إلا على هديه ولا يستضئ إلا بنوره ولا يقتدى إلا برسوله صلي الله عليه وسلم فهو ملتزم بالإسلام في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته ، وهذا الصنف من الناس وهم قليل – يأتيهم الشيطان بكل شاردة وواردة فلا يستطيع أن يغويهم فبعد ما تعجزه الحيل معهم يستنجد بأوليائه من شياطين الإنس ليعاونوه في تلك المهمة ..
قال تعالي : { وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم ليجادلوكم } (1) . فنجد الشاب إذا هداه الله للالتزام بالإسلام التزاما كاملاً والسير على نهج خير الأنام صلى الله عليه وسلم جاءته الفتن من كل جانب تكشر عن أنيابها فإذا استعصم بحبل الله وصبر وتغلب على شياطين الجن وانتصر عليهم جاءه أصدقاء السوء وأتراب الفسوق يثبطون من عزيمته ويوهنون من قوته في الحق ويقولون له :
(1) سورة الأنعام الآية 121..
((مالك قد حرمت نفسك من متع الحياة فلم تعد تنظر إلي الفتيات الجميلات ولا تشاهد الأفلام والمسرحيات ولا تستمع إلي الفنانين والفنانات وتركت الحفلات والسهرات وتركت الربا في المعاملات وأصبحت تقول هذا حلال وهذا من المحرمات إنا نراك قد ضيعت شبابك وفاتك كثير من اللذات .....)).
فقل لهم :
إني أخاف من الضلال وإنني
أمشي على نهج الحبيب محمد
عزفت نفسي عن الدنيا وزينتها
ورغبت فيما عند ربي الأمجد
ورغبت عن سبل الضلالة كلها
فأنا بغير محمد لا أقتدي
وأدعوك إلي هذا الطريق فإنه
طريق المجد والهدى والسؤدد
فربما لا يستجيب من أول وهلة فقل له :
إني رأيت عواقب الدنيا
فتركت ما أهوي لما اخشي
فكرت في الدنيا وعالمها
فإذا جميع أمورها تفني
ولقد مررت على القبور فما
ميزت بين العبد والمولى
فإن شعرت منه ليناً فزده :
من كان يعلم أن الموت مدركه
والقبر مسكنه والبعث مخرجه
وأنه بين جنات ستبهجه
يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكل شئ سوي التقوى به سمج
وما أقام عليه منه أسمجه
تري الذي اتخذ الدنيا له وطنا
لم يدر أن المنايا سوف تزعجه
فإن وجدته أسيراً لغفلة فذكره بقولك :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والأمس لك لازم
تسر بما يفني وتفرح بالمني
كما سر باللذات في النوم حالم
وشغلك فيما تكره غبـــــــة
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فإن وجدته مغروراً بفتوته وشبابه فقل له :
نعم أنت الشجاع لو كنت تبقي
غير أنه لابقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب
كان في الناس غير أنك فان
ثم ذكره بقولك :
نسير إلي الآجال في كل ساعة
وأيامنا تطوي وهن مراحل
ولم نر مثل الموت حقا كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطل
ترحل عن الدنيا بزاد من التقي
فعمرك أيام تعد قلائل
ثم قل له ناصحا :
يا خادم الجسم كم تشقي بخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس واستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
فإن قبل نصحك وعمل بقولك فالحمد لله ، وإن أصر على أن يأخذك معه في طريق الغواية والضلال فاحذره فإنه من شياطين الإنس ..
قال ملك بن دينار : (( إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عنى شيطان الجن ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلي المعاصي عيانا .)) (1) ..
فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن ونسأله سبحانه أن يقينا شرهم ويكفينا مكرهم ..
(1) تفسير القرطبي 7/67