الحكمة من خلق الشيطان
الشيطان منبع الشرور والآثام،فهو القائد إلى الهلاك الدنيوي والأخروي،ورافع الراية في كل وقت ومكان،يدعو الناس إلى الكفران،ومعصية الرحمن،فهل في خلقه من حكمة؟ وما هذه الحكمة؟
أجاب عن هذا السؤال ابن القيم رحمه الله تعالى فقال :" في خلق إبليس وجنوده من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله ".
فمن ذلك:
1- ما يترتب على مجاهدة الشيطان وأعوانه من إكمال مراتب العبودية:
فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه،ومخالفته ومراغمته في الله،وإغاظته وإغاظة أوليائه،والاستعاذة به منه،واللجوء إليه أن يعيذهم من شرّه وكيده،فيترتب على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه...والموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.
2- خوف العباد من الذنوب:
ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعدما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه،وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم،ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك،حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى،وخضوع آخر،وخوف آخر،كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ،وهم يشاهدونه،فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
3- جعله الله عبرة لمن اعتبر:
ومنها أن الله جعله عبرة لمن خالف أمره،وتكبر عن طاعته،وأصرّ على معصيته،كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه،أو عصى أمره،ثم تاب وندم ورجع إلى ربه،فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب،وجعل هذا الأب عبرة لمن أصرّ وأقام على ذنبه،وهذا الأب عبرة إن تاب ورجع إلى ربه،فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة،والآيات الظاهرة.
4- جعله فتنة واختباراً لعباده:
ومنها أنّه محك امتحن الله به خلقه،ليتبين به خبيثهم من طيبهم،فإنه - سبحانه - خلق النوع الإنساني من الأرض،وفيها السهل والحزن،والطيب والخبيث،فلا بد أن يظهر ما كان في مادتهم،فعن قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ،فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ،مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَصْفَرُ،وَبَيْنَ ذَلِكَ،وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ،وَالْخَبِيثُ وَالطِّيبُ».
فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها،فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره،فلا بدّ إذاً من سبب يظهر ذلك،وكان إبليس محكّاً يميز به الطيب من الخبيث،كما جعل أنبياءه ورسله محكّاً لذلك التمييز،قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران:179]،فأرسل رسله إلى المكلفين،وفيهم الطيب والخبيث،فانضاف الطيب إلى الطيب،والخبيث إلى الخبيث.
واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان،فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم،وجعل لهؤلاء داراً على حدة،ولهؤلاء داراً على حدة،حكمة بالغة،وقدرة باهرة.
5- إظهاره كمال قدرته سبحانه بخلق الأضداد:
ومن هذه الحكم أن يظهر كمال قدرته بخلق الأضداد،مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين،وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه؛فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض،والضياء والظلام،والجنة والنار،والماء والنار،والحر والبرد،والطيب والخبيث.
6- الضد يظهر حسنه الضد:
ومن هذه الحكم أنَّ خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده،فإنَّ الضد إنما يظهر حسنه بضده،فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل،ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى.
7- الابتلاء به إلى تحقيق الشكر:
ومن هذه الحكم أنه سبحانه،يحبّ أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه،ولا ريب أن أولياءَه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده،وامتحانهم به من أنواع شكره،ما لم يكن ليحصل لهم بدونه،فكم بين شكر آدم وهو في الجنة،قبل أن يخرج منها،وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه،ثم اجتباه ربه،وتاب عليه وقبله.
8- في خلق إبليس قيام سوق العبودية:
ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضا ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه،وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله،وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية،وأحبها إلى الرب سبحانه،فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصي حكمها وفوائدها،وما فيها من المصالح إلا الله.
9- ظهور آياته وعجائب قدرته:
ومن هذه الحكم أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم،من تمام ظهور آياته،وعجائب قدرته،ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه،كظهور آية الطوفان،والعصا،واليد،وفلق البحر،وإلقاء الخليل في النار،وأضعاف ذلك من آياته،وبراهين قدرته،وعلمه،وحكمته،فلم يكن بُدّ من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك.
10- الخلق من النار آية:
ومن هذه الحكم أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد،وفيها الإشراق والإضاءَة والنور،فأخرج منها - سبحانه - هذا وهذا،كما أنّ المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث،والسهل والحزن،والأحمر والأسود والأبيض،فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة باهرة،وآية دالة على أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11].
11- ظهور متعلقات أسمائه:
ومن هذه الحكم أن من أسمائه الخافض الرافع،المعزِّ المذِّل،الحكم العدل،المنتقم،وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها أحكامها،كأسماء الإحسان والرزق والرحمة ونحوها،ولا بدّ من ظهور متعلقات هذه وهذه.
12- ظهور آثار تمام ملكه وعموم تصرفه:
ومن هذه الحكم أنه سبحانه الملك التام الملك،ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب،والإكرام والإهانة والعدل،والفضل والإعزاز والإذلال،فلا بدّ من وجود من يتعلق به أحد النوعين،كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
13- وجود إبليس من تمام حكمته تعالى:
ومن هذه الحكم أن من أسمائه الحكيم،والحكمة من صفاته - سبحانه - وحكمته تستلزم وضع كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه،فاقتضت خلق المتضادات،وتخصيص كل واحد منها بما لا يليق به غيره من الأحكام والصفات والخصائص،وهل تتم الحكمة إلا بذلك؟ فوجود هذا النوع من تمام الحكمة،كما أنه من كمال القدرة.
14- حمده تعالى على منعه وخفضه:
ومنها أن حمده - سبحانه - تامٌّ كامل من جميع الوجوه،فهو محمود على عدله ومنعه،وخفضه ورفعه،وانتقامه وإهانته،كما هو محمود على فضله وعطائه،ورفعه وإكرامه،فله الحمد التام الكامل على هذا وهذا،وهو يحمد نفسه على ذلك كله،ويحمده عليه ملائكته،ورسله وأولياؤه،ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم،وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه،فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة،كما له عليه الحمد التام،فلا يجوز تعطيل حمده،كما لا يجوز تعطيل حكمته.
15- وبخلقه يظهر الله لعباده حلمه وصبره:
ومنها أنه - سبحانه - يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره،وأناته،وسعة رحمته،وجوده،فاقتضى ذلك خلق من يشرك به،ويضاده في حكمه،ويجتهد في مخالفته،ويسعى في مساخطه،بل يشبهه سبحانه وتعالى،وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات،ويرزقه،ويعافيه،ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم،ويجيب دعاءَه،ويكشف عنه السوء،ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءَته،فلله كم في ذلك من حكمة وحمد.
ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته،كما في الصحيح عَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ :«لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ،وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ،ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ».
وفي الصحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،عَنِ النَّبِيِّ ،قَالَ:قَالَ اللَّهُ:«كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،وَشَتَمَنِي،وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ،وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ،فَقَوْلُهُ لِي وَلَدٌ،فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا».
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:" قَالَ اللَّهُ:كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ:لَنْ يُعِيدَنِي،كَمَا بَدَأَنِي،وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ،وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ:اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ،لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ،وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ "
وهو سبحانه مع هذا الشتم له،والتكذيب له،يرزق الشاتم المكذب،ويعافيه،ويدفع عنه،ويدعوه إلى جنته،ويقبل توبته إذا تاب إليه،ويبدله بسيئاته حسنات،ويلطف به في جميع أحواله،ويؤهله لإرسال رسله،ويأمرهم أن يلينوا له القول،ويرفقوا به.
وعن هَنَّادَ بْنِ السَّرِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ , يَقُولُ:" مَا مِنْ لَيْلَةٍ اخْتَلَطَ ظَلَامُهَا وَأَرْخَى اللَّيْلُ سِرْبَالَ سِتْرِهَا إِلَّا نَادَى الْجَلِيلُ جَلَّ جَلَالُهُ:مَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُودًا , وَالْخَلَائِقُ لِي عَاصُونَ وَأَنَا لَهُمْ مُرَاقِبٌ , أَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُونِي وَأَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ , أَجْوَدُ بِالْفَضْلِ عَلَى الْعَاصِي وَأَتَفَضَّلُ عَلَى الْمُسِيءِ مَنْ ذَا الَّذِي دَعَانِي فَلَمْ أَسْمَعْ إِلَيْهِ أَوْ مَنْ ذَا الَّذِي سَأَلَنِي فَلَمْ أَعْطِهِ أَمْ مَنْ ذَا الَّذِي أَنَاخَ بِبَابِي وَنَحَّيْتُهُ أَنَا الْفَضْلُ وَمِنِّي الْفَضْلُ أَنَا الْجَوَادُ وَمِنِّي الْجُودُ أَنَا الْكَرِيمُ،وَمِنِّي الْكَرْمُ،وَمِنْ كَرَمِي أَنْ أَغْفِرَ لِلْعَاصِي بَعْدَ الْمَعَاصِي وَمِنْ كَرَمِي أَنْ أُعْطِيَ التَّائِبَ كَأَنَّهُ لَمْ يَعْصِنِي , فَأَيْنَ عَنِّي تَهْرَبُ الْخَلَائِقُ وَأَيْنَ عَنْ بَابِي يَتَنَحَّى الْعَاصُونَ "
وعن مُحَمَّدَ بْنِ الْمُنْذِرِ , قَالَ:سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ , يَقُولُ:" مَا مِنْ لَيْلَةٍ اخْتَلَطَ ظَلَامُهَا , وَأَرْخَى اللَّيْلُ سِرْبَالَ سِتْرَهُ إِلَّا نَادَى الْجَلِيلُ مِنْ بُطْنَانِ عَرْشِهِ:أَنَا الْجَوَادُ وَمَنْ مِثْلِي أَجْوَدُ عَلَى الْخَلَائِقِ , وَالْخَلَائِقُ لِي عَاصُونَ وَأَنَا أَرْزُقُهُمْ،وَأَكْلَؤُهُمْ فِي مَضَاجِعِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُونِي وَأَتَوَلَّى حِفْظَهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْصُونِي أَنَا الْجَوَادُ،وَمَنْ مَثَلِي أَجْوَدُ عَلَى الْعَاصِينَ لِكَيْ يَتُوبُوا فَأَغْفِرُ لَهُمْ فَيَا بُؤْسَ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي , وَيَا شِقْوَةَ مَنْ عَصَانِي وَتَعَدَّى حُدُودِي , أَيْنَ التَّائِبُونَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ "
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:" قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:إِنِّي وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ،أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي ".
وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤَيِّسْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ،بَلْ قَالَ:«مَتَى جِئْتَنِي قَبِلْتُكَ،إِنْ أَتَيْتَنِي لَيْلًا قَبِلْتُكَ،وَإِنْ أَتَيْتَنِي نَهَارًا قَبِلْتُكَ،وَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا،وَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ بَاعًا،وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ،وَلَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا،ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا،أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً،وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ،ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ،وَمَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا؟
عِبَادِي يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ،وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ،إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ:أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي،وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ،خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ،وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ،أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِي،وَأَنَا الْغَنِيُّ عَنْهُمْ،وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي،وَهُمْ أَفْقَرُ شَيْءٍ إِلَيَّ.
مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ،وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِّي نَادَيْتُهُ مِنْ قَرِيبٍ،وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ،وَمَنْ أَرَادَ رِضَايَ أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ،وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ.
أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي،وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي،وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي،وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي،إِنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُمْ،فَإِنِّي أُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَأُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ،وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَيَّ فَأَنَا طَبِيبُهُمْ،أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ،لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ.
مَنْ آثَرَنِي عَلَى سِوَايَ آثَرْتُهُ عَلَى سِوَاهُ،الْحَسَنَةُ عِنْدِي بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ،إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ،وَالسَّيِّئَةُ عِنْدِي بِوَاحِدَةٍ،فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهَا وَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُهَا لَهُ.
أَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ،وَأَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ،رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي،وَحِلْمِي سَبَقَ مُؤَاخَذَتِي،وَعَفْوِي سَبَقَ عُقُوبَتِي،أَنَا أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ مُهْلِكَةٍ دَوِيَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ،فَطَلَبَهَا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِهَا،نَامَ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ،فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا هِيَ عَلَى رَأْسِهِ،قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِالشَّجَرَةِ،فَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ».
وعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ،قَالَ:قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ،" إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:يَا ابْنَ آدَمَ خَيْرِي يَنْزِلُ إِلَيْكَ،وَشَرُّكَ يَصْعَدُ إِلَيَّ،وَأَتَحَبَّبُ إِلَيْكَ بِالنِّعَمِ،وَتَتَبَغَّضُ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي،وَلَا يَزَالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ عَرَجَ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ "
وَهَذِهِ فَرْحَةُ إِحْسَانٍ وَبِرٍّ وَلُطْفٍ،لَا فَرْحَةَ مُحْتَاجٍ إِلَى تَوْبَةِ عَبْدِهِ،مُنْتَفِعٍ بِهَا،وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ لِعَبْدِهِ إِحْسَانًا إِلَيْهِ،وَمَحَبَّةً لَهُ وَبِرًّا بِهِ،لَا يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ،وَلَا يَتَعَزَّزُ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ،وَلَا يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ غَلَبَةٍ،وَلَا يَعُدُّهُ لِنَائِبَةٍ،وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَمْرٍ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ،وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا،وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ.
وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ :«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ،وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ،فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
وعن أبي هُرَيْرَةَ،قالَ:قُلْنَا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّا إِذَا كُنَّا عِنْدَكَ رَقَّتْ قُلُوبَنَا،وَكُنَّا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ،وَإِذَا فَارَقْنَاكَ أَعْجَبَتْنَا الدُّنْيَا،وَشَمَمْنَا النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ،فَقَالَ:«لَوْ تَكُونُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ بِأَكُفِّكُمْ،وَلَوْ أَنَّكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ،وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ كَيْ يَغْفِرَ لَهُمْ»،قَالَ:قُلْنَا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،حَدِّثْنَا عَنِ الْجَنَّةِ مَا بِنَاؤُهَا؟ قَالَ:«لَبِنَةٌ مِنْ ذَهَبٍ،وَلَبِنَةٌ مِنْ فِضَّةٍ وَمِلَاطُهَا الْمِسْكُ الْأَذْفَرُ،وَحَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ أَوِ الْيَاقُوتُ،وَتُرَابُهَا الزَّعْفَرَانُ،مَنْ يَدْخُلْهَا يَنْعَمْ،فَلَا يَبْؤُسُ،وَيَخْلُدْ لَا يَمُوتُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ،وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ،ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ:الْإِمَامُ الْعَادِلُ،وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ،وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ،وَيَقُولُ الرَّبُّ:وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،أَنَّهُ قَالَ:أُنْزِلَتْ {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ قَاعِدٌ،فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ :" مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " فَقَالَ:أَبْكَانِي هَذِهِ السُّورَةُ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ :" لَوْ أَنَّكُمْ لَا تُخْطِئُونَ،وَلَا تُذْنِبُونَ فَيُغْفَرُ لَكُمْ لَخَلَقَ اللهُ أُمَّةً مِنْ بَعْدَكُمْ يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ "
16- خلق الله خلقه بحيث يظهر فيهم أحكام أسمائه وصفاته وآثارها:
فالله سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده،وحكمته أن يخلق خلقاً يظهر فيهم أحكامها وآثارها،فلمحبته للعفو خلق من يحسن العفو عنه،ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له،ويحلم عنه،ويصبر عليه،ولا يعاجله،بل يكون يحب أمانه وإمهاله.
ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته،ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءَة والعصيان،وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان،فلولا خلقه من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات،لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها،فتبارك الله رب العالمين،وأحكم الحاكمين،ذو الحكمة البالغة،والنعم السابغة،الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته،وله في كل شيء حكمة باهرة،كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات.
17- ما حصل بسبب وجود الشيطان من محبوبات للرحمن:
فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب،المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى،يتصل في حبه ما حصل به من مكروه،والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه،إذا كان طريقاً إلى حصول ذلك المحبوب.ووجود الملزوم بدون لازمه محال.
فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من الشرور والمعاصي ما حصل،فكم حصل بسبب وجوده،ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله،ومخالفة هوى النفس وشهوتها له،ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته،وأحبّ شيء للحبيب أن يرى محبّه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته.
قال إبراهيم بن أدهم:
من أجلك قد جعلت خدي أرضاً...للشامت والحسود حتى ترضى
مولاي إلى متى بهذا أحظى...عمري يفنى وحاجتي ما تقضى
لو قطعني الغرام إرباً إرباً...ما ازددت على الملام إلا حبا
لا زلت بكم أسير وجد صبا...حتى أقضي على هواكم نحبا
وقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ:" أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ:بِعَيْنَيَّ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي،وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِي،فَكَيْفَ بِهِمْ إِذَا صَارُوا إِلَى دَارِي،وَتَبَحْبَحُوا فِي رِيَاضِ رَحْمَتِي،هُنَالِكَ فَلْيُبْشِرِ الْمُصَفُّونَ لِلَّهِ أَعْمَالَهُمْ بِالنَّظَرِ الْعَجِيبِ مِنَ الْحَبِيبِ الْقَرِيبِ،أَتُرَانِي أَنْسَى لَهُمْ عَمَلًا،فَكَيْفَ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أَجُودُ عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي،فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ،وَمَا غَضِبْتُ عَلَى شَيْءٍ كَغَضَبِي عَلَى مَنْ أَخْطَأَ خَطِيئَةً فَاسْتَعْظَمَهَا فِي جَنْبِ عَفْوِي،لَوْ تَعَجَّلْتُ بِالْعُقُوبَةِ أَحَدًا،وَكَانَتِ الْعَجَلَةُ مِنْ شَأْنِي،لَعَجَّلْتُ لِلْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي،وَلَوْ رَآنِي خِيَارُ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ أَسْتَوْهِبُهُمْ مِمَّنِ اعْتَدَوْا عَلَيْهِ،ثُمَّ أَحْكُمُ لِمَنْ وَهَبَهُمْ بِالْخُلْدِ الْمُقِيمِ،مَا اتَّهَمُوا فَضْلِي وَكَرَمِي،فَكَيْفَ وَأَنَا الدَّيَّانُ الَّذِي لَا تَحِلُّ مَعْصِيَتِي،وَأَنَا الدَّيَّانُ الَّذِي أُطَاعُ بِرَحْمَتِي،وَلَا حَاجَةَ لِي بِهَوَانِ مَنْ خَافَ مَقَامِي،وَلَوْ رَآنِي عِبَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَيْفَ أَرْفَعُ قُصُورًا تَحَارُ فِيهَا الْأَبْصَارُ فَيَسْأَلُونِي لِمَنْ ذَا؟ فَأَقُولُ:لِمَنْ رَهِبَ مِنِّي،وَلَمْ يَجْمَعْ عَلَى نَفْسِهِ مَعْصِيَتِي وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِي،وَإِنِّي مُكَافِئٌ عَلَى الْمَدْحِ،فَامْدَحُونِي "
وعن الْقَاسِمَ بْنِ عُثْمَانَ الْجُوعِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ،يَقُولُ:" قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:بِعَيْنَيَّ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَيُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِي،فَكَيْفَ بِهِمْ وَقَدْ صَارُوا فِي جِوَارِي وَتَبَحْبَحُوا فِي رِيَاضِ خُلْدِي فَهُنَالِكَ فَلْيُبْشِرِ الْمُصْغُونَ إِلَى أَعْمَالِهِمْ بِالنَّظَرِ الْعَجِيبِ مِنَ الْحَبِيبِ الْقَرِيبِ،تَرَوْنَ أَنْ أُضَيِّعَ لَهُمْ عَمَلًا وَأَنَا أَجُودُ عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ،مَا غَضِبْتُ عَلَى أَحَدٍ كَغَضَبِي عَلَى مَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَاسْتَعْظَمَهُ فِي جَنْبِ عَفْوِي فَلَوْ كُنْتُ مُعَجِّلًا أَحَدًا وَكَانَتِ الْعَجَلَةُ مِنْ شَأْنِي لَعَاجَلْتُ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي،فَأَنَا الدَّيَّانُ الَّذِي لَا تَحِلُّ مَعْصِيَتِي وَلَا أُطَاعُ إِلَّا بِفَضْلِ رَحْمَتِي،وَلَوْ لَمْ أَشْكُرْ عِبَادِي إِلَّا عَلَى خَوْفِهِمْ مِنَ الْمُقَامِ بَيْنَ يَدَيَّ لَشَكَرْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَجَعَلْتُ ثَوَابَهُمُ الْأَمْنَ مِمَّا خَافُوا،فَكَيْفَ بِعِبَادِي لَوْ قَدْ رَفَعْتُ قُصُورًا تَحَارُ لِرُؤْيَتِهَا الْأَبْصَارُ فَيَقُولُونَ:رَبَّنَا لِمَنْ هَذِهِ الْقُصُورُ؟ فَأَقُولُ:لِمَنْ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَلَمْ يَسْتَعْظِمْهُ فِي جَنْبِ عَفْوِي أَلَا وَإِنِّي مُكَافِئٌ عَلَى الْمَدْحِ فَامْدَحُونِي "
وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ:سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيَّ،يَقُولُ:«عَلَامَةُ أَهْلِ الصِّدْقِ مِنَ الْمُحِبِّينَ وَغَايَةُ أَمَلِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَصْبِرَ أَبْدَانُهُمْ عَلَى الدُّونِ وَأَنْ تَخْلُصُ لَهُمُ النِّيَّاتُ مِنْ فَسَادِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا شَوَاهِدَ الْكَرَامَاتِ عِنْدَ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ،وَغَايَةَ أَمَلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُنَعِّمَهُمْ بِنَظَرَهِ إِلَيْهِمْ فَنَعِيمُهَا الْإِسْفَارُ وَكَشَفُ الْحِجَابِ حَتَّى لَا يُمَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِ،وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ بِهِمْ إِذَا اسْتَزَارَهُمْ إِلَيْهِ» وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ:" أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:بِعَيْنَيَّ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِي فَكَيْفَ إِذَا صَارُوا إِلَى جَوَارِي وَاسْتَزَرْتُهُمْ لِلْمَقْعَدِ عِنْدِي أَسْفَرْتُ لَهُمْ عَنْ وَجْهِي،فَهُنَالِكَ فَلْيُبْشِرِ الْمُصْفُونَ لِلرَّحْمَنِ أَعْمَالَهُمْ بِالنَّظَرِ الْعَجِيبِ مِنَ الْحَبِيبِ الْقَرِيبَ أَتُرَانِي أَنْسَى لَهُمْ عَمَلًا كَيْفَ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ؟ أَجْوَدُ عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ وَمَا غَضِبْتُ عَلَى شَيْءٍ كَغَضَبِي عَلَى مَنْ أَخْطَأَ خَطِيئَةً ثُمَّ اسْتَعْظَمَهَا فِي جَنْبِ عَفْوِي وَلَوْ عَاجَلْتُ أَحَدًا بِالْعُقُوبَةِ لَعَاجَلْتُ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَلَوْ يَرَانِي عِبَادِي كَيْفَ أَسْتَوْهِبُهُمْ مِمَّنِ اعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَوْجَبْتُ لِمَنْ وَهَبَهَمُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ لَمَا اتَّهِمُوا فَضْلِي وَكَرَمِي وَلَوْ لَمْ أَشْكُرْ عِبَادِي إِلَّا عَلَى خَوْفِهِمْ مِنَ الْمَقَامِ بَيْنَ يَدَيَّ لَشَكَرْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ يَرَانِي عِبَادِي كَيْفَ أَرْفَعُ قُصُورًا تَحَارُ فِيهَا الْأَبْصَارُ فَيُقَالُ:لِمَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ:«لِمَنْ عَصَانِي وَلَمْ يَقْطَعْ رَجَاءً مِنِّي فَأَنَا الدَّيَّانُ الَّذِي لَا تَحِلُّ مَعْصِيَتِي وَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى هَوَانِ مَنْ خَافَ مَقَامِي»
فالله ما أحب إليه احتمال محبيه أذى أعدائه لهم فيه،وفي مرضاته،وما أنفع ذلك الأذى لهم،وما أحمدهم لعاقبته،وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به،ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة،أو يدخلوا من هذا الباب،أو يذوقوا من هذا الشراب.
فَقُلْ لِلْعُيُونِ الرُّمْدِ لِلشَّمْسِ أَعْيُنٌ...سِوَاكِ تَرَاهَا فِي مَغِيبٍ وَمَطْلَعِ
وَسَامِحْ نُفُوسًا بِالْقُشُورِ قَدْ ارْتَضَتْ...وَلَيْسَ لَهَا لِلُّبِّ مِنْ مُتَطَلَّعِ
وَسَامِحْ نُفُوسًا أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَهَا...بِأَهْوَائِهَا لَا تَسْتَفِيقُ وَلَا تَعِي
فإن أغضب هذا المخلوق ربه،فقد أرضاه فيه أنبياؤه ورسله وأولياؤه،وذلك الرضا أعظم من ذلك الغضب،وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات،فإنّه سبحانه أشدّ فرحاً بتوبة عبده من الفاقد لراحلته،التي عليها طعامه وشرابه،إذا وجدها في المفاوز المهلكات،وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو اللعين،فقد سرّه وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه،وهذا الرضا أعظم عنده وأبرّ لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب.
وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة،فقد أرضاه توبته وإنابته،وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له.
وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك الخروج،فقد أرضاه أعظم الرضا دخوله إليها ذلك الدخول.
وإن أسخطه قتلهم أولياءه وأحبابه،وتمزيق لحومهم،وإراقة دمائهم،فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها،ولا أنعم،ولا ألذّ في قربه وجواره.
وإن أسخطه معاصي عباده،فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبرّه وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك،وحمده وتمجيده بهذه الأوصاف التي حمده بها والثناء عليه بها،أحب إليه،وأرضى له من فوات تلك المعاصي،وفوات هذه المحبوبات.
واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله،فهو عقد نظام الخلق والأمر،والرب تعالى له الحمد كلّه بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه،فما خلق شيئاً،ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد،فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه وأمره،حمداً حقيقياً يتضمن محبته والرضا به وعنه،والثناء عليه،والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به،فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده...فكما أنه لا يكون إلا حميداً فلا يكون إلا حكيماً،فحمده وحكمته كعلمه وقدرته،وحياته من لوازم ذاته،ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه ومقتضياتها وآثارها،فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبرياءه وعظمته.
18- محبته سبحانه أن يكون ملاذاً ومعاذاً لأوليائه:
وفي هذا يقول ابن القيم:" كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح،فمنها أنّه يعيذ وينصر ويغيث،فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون،وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم،ويعوذوا بهم،كما قَالَ الْمُتَنَبِّي في ممدوحه:
يا مَنْ ألُوذُ بِهِ فيمَا أُؤمّلُهُ وَمَنْ أعُوذُ بهِ مِمّا أُحاذِرُهُ
وَمَنْ تَوَهّمْتُ أنّ البَحرَ راحَتُهُ جُوداً وأنّ عَطاياها جَواهِرُهُ
لا يَجْبُرُ النّاسُ عَظْماً أنْتَ كاسِرُهُ وَلا يَهيضُونَ عَظْماً أنتَ جابِرُهُ
ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله.
والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه،وأن يعوذوا به،كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه،وبذلك يظهر تمام نعمته على عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه،فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين،والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين،ويريهم نصره لهم على عدوهم،وحمايتهم منه،وظفرهم به،فيا لها من نعمة كمل بها سرورهم ونعيمهم،وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه.
وما منهما إلا له فيه حكمة ××× يقصر عن إدراكها كل باحث
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/ 114) وتراجم شعراء موقع أدب (48/ 465) ومحاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (2/ 163) ونفح الأزهار في منتخبات الأشعار (ص:42) ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 205) وديوان المتنبي (2/272)
ذكر البيتين الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ط هجر (15/ 278) وقال:"َقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْمُتَنَبِّي هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ،وَيَقُولُ:إِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا لِجَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ يَقُولُ:رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي السُّجُودِ.".
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص:240)