إصابة الإنسان بالسحر ليس من علم الغيب المطلق ؟!
إصابة الإنسان بالسحر الغيب المطلق
العلم بإصابة الإنسان بالسحر ليس من علم الغيب المطلق...
روى الدارقطني في (( السنن )) ، والحاكم في (( المستدرك )) ، والبيهقي في (( الكبرى )) والهيثمي في (( المجمع )) ، واللفظ للدارقطني قال : نا أبو محمد بن صاعد نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب الثقفي قال : سمعت يحيى ابن سعيد يقول أخبرني ابن عَمرة محمد بن عبد الرحمن بن حارثة وهو أبو الرجال عن عمرة أن عائشة رضي الله عنها أصابها مرض وأن بعض بني أخيها ذكروا شكواها لرجل من الزُّطِّ( 1 ) يتطبب ، وأنه قال لهم : إنكم لتذكرون امرأة مسحورة سحرتها جارية لها في حَجْر الجارية الآن صبي قد بال في حَجْرها ؛ فذكروا ذلك لعائشة رضي الله عنها فقالت : ادعوا لي فلانة ، لجارية لها ، فقالوا : في حجرها فلان ـ صبي لهم ـ قد بال في حجرها ، فقالت : ائتوني بها ، فأُتيت بها ، فقالت : سحرْتِيني(؟) قالت : نعم ، قالت : لِمَهْ(؟) قالت : أردت أن أُعْتَقَ.
وكانت عائشة رضي الله عنها أعتقتها عن دُبر منها( 2 )، فقالت : إن لله عليَّ أن لا تُعتقي أبداً ، انظروا أسوأ العرب ملكة فبيعوها منهم ، واشترت بثمنها جارية فأعتقتها ))( 3 ).
وفي (( الموطأ )) : (( حدثنا أبو مصعب قال حدثنا مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة أنها أعتقت جارية لها عن دبر منها ، ثم إن عائشة مرضت بعد ذلك ما شاء الله ، فدخل عليها سِنْدِيٌّ فقال : إنك مطبوبة ، فقالت من طبني(؟) فقال : امرأة من نعتها كذا وكذا ، وقال : في حجرها صبي قد بال ، فقالت عائشة : ادعوا لي فلانة ، لجارية لها تخدمها ، فوجدوها في بيت جيران لها في حجرها صبي قد بال ، فقالت : حتى أغسل بول هذا الصبي ، فغسلته ثم جاءت ، فقالت لها عائشة : أسحرتني(؟) فقالت : نعم ، فقالت : لم(؟) قالت : أحببت العتق ، فقالت عائشة : أحببت العتق فوالله لا تعتقي أبداً ، فأمرت ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء مِلْكَتَهَا ، ثم ابتع لي بثمنها رقبة حتى أعتقها ، ففعل . . . ))( 4 ).
قلت : والشاهد قول الزطي في الرواية الأولى : (( إنكم لتذكرون امرأة مسحورة )) ، وقوله في الثانية : (( إنك مطبوبة )) ، وقول الجارية : (( نعم )) ، فلو كان مرض عائشة بالسحر من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله لما علمه الزطي هذا ، فالمطلق لا يظهر الله عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول ، والزطي ليس بمرتضى ولا برسول ، زد على ذلك علم الجارية بأن عائشة مسحورة ، فهي التي سحرتها( 5 ).
الفوائد المستنبطة من الأثر ...؟
( أ ) (( جواز أن تقول للمسحور عن سحره ، ومَنْ سَحَرَهُ إن لم يكن يعلم فقد أقرَّت عائشة في إحدى الروايتين بني أخيها فلم تنكر عليهم ،كذا لم تنكر على الزطي قوله لها في الرواية الثانية.
( ب ) سؤال المسحور مَنْ سحره إن علم : سحرتني(؟) ليتثبت ، ولِمَهْ(؟) ليقف على السبب.
( ج ) جواز أن يعاقب المسحور من سحره ، وينتصر منه ، وأن يأخذ على يده إن كان مقدوراً عليه بما هو مشروع ، ومن ذلك أن يرفع أمره للقاضي أو السلطان ، فقد عاملت عائشة الجارية التي هي ملكٌ لها نقيض مرادها ، وهذا مشروع كحرمان القاتل ميراث القتيل وهذا مجمع عليه بين أهل العلم ))( 6 ).
( 1 ) الزُّطُّ : جنس من السودان والهنود ، والواحد : زُطِّي ، وهم الذين يتكلم الجن على ألسنتهم ويخبرون عن المغيبات ، قال عنهم شيخ الإسلام : (( . . . فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئاً فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي ويحرقون ويوقدون ناراً عظيمة مؤججة ويضعون فيها الحديد العظيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحاً فيها أسنة ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس ويأخذ ذلك الحديد المحمى ويمره على يديه . . . وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح ، وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك كالمصروع الذي يُضرب ضرباً وجيعاً وهو لا يحس بذلك لأن الضرب يقع على الجني )).
وقال أيضاً : (( . . . فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الـهواء ، وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله كما يلبس الشيطان المصروع وبأرض الهند والمغرب ضرب من الزط يقال لأحدهم : المصلى فإنه يصلى النار كما يصلى هؤلاء ، وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء ويقف على رأس الزج ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء وهم من الزط الذين لا خلاق لهم . . . )). اهـ كلامه رحمه الله.
( 2 ) عن دُبُرٍ منها : أي : بعد موتها ، وهو أن يُعتق الرجل عبده بعد موته ، فيقول : أنت حر بعد موتي ، وهو مُدبَّرٌ.
( 3 ) الدارقطني ( سنن الدارقطني / 4 )( كتاب المكاتب )( حديث رقم : 4223 ) وقال المحقق : ( إسناده صحيح ) ، والحاكم ( المستدرك على الصحيحين / 5 )( كتاب الطب )( حكاية جارية سحرت عائشة ،حديث رقم : 7591 ) ، وقال : (( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه )) ، بتحقيق عبد السلام علوش ، والبيهقي ( السنن الكبرى )( جماع أبواب الحكم في الساحر )( باب من لا يكون سحره كفراً أو لم يقتل به أحداً ، حديث رقم 16974 ) ، بعناية عبد السلام علوش ، والهيثمي ( مجمع الزوائد / 4 )( كتاب العتق )( باب في المدبر)(حديث رقم : 7296 ) ، وقال : (( رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح )) ، تحقيق عبد الله محمد الدرويش.
قال العمروني أبو عبيد : إسناده صحيح ، ومن أعلَّ الأثر باختلاط عبد الوهاب فما أصاب فإن عبد الوهاب الثقفي إمام ثقة حجة ، وقد اختلط بأَخَرَةٍ ومن ثم حجبه أهله عن الناس فلم يحدث بعد اختلاطه بشيء ، قال الإمام الذهبي في ( ميزان الاعتدال / ج 4 ، ص 434 ) : (( لكنه ما ضَرَّ تَغَيُّرَهُ حَدِيْثَهُ ؛ فإنه ما حدَّثَ بحديث في زمن التغير ) وقال في ( سير أعلام النبلاء / 9 ، ص 239 ) : (( لكن ما ضره تغيره ، فإنه لم يحدث زمن التغير بشيء )) ، وقال الإمام العقيلي في ( كتاب الضعفاء ) : ( حدثنا الحسين بن عبد الله الذارع قال : حدثنا أبو داود قال : جرير بن حازم ، وعبد الوهاب الثقفي تغيرا فحجب الناس عنهم ).اهـ ( ج 3 ، ص 829 ) ، تحقيق حمدي السلفي ، وقال الدكتور بشار عواد ، والشيخ شعيب الأرنؤوط في : ( تحرير تقريب التهذيب ) رداً على ابن حجر في ترجمة ( عبد الوهاب الثقفي ) ما نصه : ( الثابت أن الناس قد حجبوا عنه عند تغيره ، فلم يحدث في حال اختلاطه ، كما ذكر أبو داود فيما نقله عنه العقيلي في الضعفاء ... فلا معنى لذكر اختلاطه بعد هذا فإنه يلبس ).اهـ ( ج 2 ص 398 ).
( 4 ) مالك ابن أنس ( الموطأ رواية أبي مصعب الزهري / ج 2 )( كتاب المدبر )( باب ما جاء في بيع المدبر )( حديث رقم : 2782 ) ، تحقيق بشار عواد ، ومحمود محمد خليل ، والبغوي ( شرح السنة / 7 )( كتاب الطب والرقى )( باب السحر )( حديث رقم : 3260 ) ، تحقيق سعيد اللحام.
قال العمروني : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الصحابي الجليل القرشي الزهري المدني ثقة فقيه من أجل تلاميذ مالك ، وروايته للموطأ من أصح الروايات ، حدث عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وأبو الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري ثقة ثبت كثير الحديث.