. حقيقة السحر والأدلة عليها .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ السِّحْرَ هَلْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ حَقِيقِيٌّ فِي قَلْبِ الْأَعْيَانِ , أَمْ هُوَ مُجَرَّدُ تَخْيِيلٍ . فَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْجَصَّاصِ , وَأَبُو جَعْفَرٍ
الْإِسْتِرَابَاذِي وَالْبَغَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , إلَى إنْكَارِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ السِّحْرِ وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْيِيلٌ مِنْ السَّاحِرِ عَلَى مَنْ يَرَاهُ , وَإِيهَامٌ لَهُ بِمَا هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ , وَأَنَّ السِّحْرَ لَا يَضُرُّ إلَّا أَنْ
يَسْتَعْمِلَ السَّاحِرُ سُمًّا أَوْ دُخَانًا يَصِلُ إلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ فَيُؤْذِيهِ , وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَأَنَّ السَّاحِرَ لَا يَسْتَطِيعُ بِسِحْرِهِ قَلْبَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ , فَلَا يُمْكِنُهُ قَلْبُ الْعَصَا حَيَّةً , وَلَا
قَلْبَ الْإِنْسَانِ حِمَارًا . قَالَ الْجَصَّاصُ : السِّحْرُ مَتَى أُطْلِقَ فَهُوَ اسْمٌ لِكُلِّ أَمْرٍ مُمَوَّهٍ بَاطِلٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا ثَبَاتَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } يَعْنِي مَوَّهُوا
عَلَيْهِمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ تَسْعَى , وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا ظَنُّوهُ سَعْيًا مِنْهَا لَمْ يَكُنْ سَعْيًا وَإِنَّمَا كَانَ تَخْيِيلًا
, وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا كَانَتْ عِصِيًّا مُجَوَّفَةً مَمْلُوءَةً زِئْبَقًا , وَكَذَلِكَ الْحِبَالُ كَانَتْ مَعْمُولَةً مِنْ أُدْمٍ مَحْشُوَّةً زِئْبَقًا , فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُمَوَّهًا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ
إلَى أَنَّ السِّحْرَ قِسْمَانِ : 10 - قِسْمٌ هُوَ حِيَلٌ وَمُخْرَقَةٌ وَتَهْوِيلٌ وَشَعْوَذَةٌ , وَإِيهَامٌ , لَيْسَ لَهُ حَقَائِقُ , أَوْ لَهُ حَقَائِقُ لَكِنْ لَطَفَ مَأْخَذُهَا , وَلَوْ كُشِفَ أَمْرُهَا لَعُلِمَ أَنَّهَا أَفْعَالٌ مُعْتَادَةٌ يُمْكِنُ
لِمَنْ عَرَفَ وَجْهَهَا أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَهَا , وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ خَوَاصِّ الْمَوَادِّ وَالْحِيَلِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَنَحْوِهَا , وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى السِّحْرِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى
: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ خَفَاءُ وَجْهِهِ ضَعِيفًا فَلَا يُسَمَّى سِحْرًا اصْطِلَاحًا , وَقَدْ يُسَمَّى سِحْرًا لُغَةً , كَمَا قَالُوا : ( سَحَرْت
الصَّبِيَّ ) بِمَعْنَى خَدَعْته . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَوُجُودٌ وَتَأْثِيرٌ فِي الْأَبْدَانِ . فَقَدْ ذَهَبُوا إلَى إثْبَاتِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ ,
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ السِّحْرِ وَإِحْدَاثِهِ الْمَرَضَ وَالضَّرَرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ .